النظريات الأدبية في الأدب العربي بين الأصالة والمعاصرة

النظريات الأدبية في الأدب العربي بين الأصالة والمعاصرة:
دراسة  نقدية

د. قمر شعبان الندوي
أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية، كلية الآداب
جامعة بنارس الهندوسية، فارانسي

(قدمت هذه الورقة في مؤتمر النظريات الأدبية المعاصرة الوطني المنظَّم تحت رعاية مركز الدراسات العربية والإفريقية، كلية اللغات، جامعة جواهرلال نهرو، نيو دلهي خلال 29-30 مارس 2016)
الملخص:

ليست للأدب العربي طفولة ولاشيخوخة في صنوفه وفنونه وأنواعه ومضامين شعره وروعة نصوصه المنثورة والمنظومة، إنما ولد شابا ناضجا مكتملا منذ نشأته، باتجاهات أدبية -يدعي الغرب اليوم بتزعمها وترأسها- مع العناية بكل ما يعطي النص الأدبي منظوما كان أم منثورا من قيمة جمالية ودقة تعبيرية ووصف أنيق لما يجري حوله من أحداث وطبيعة مع الاحتفاظ بأصالة اللغة العربية التي افتخر بها الفحول من الشعراء والنوابغ من الأدباء والكتاب في عصور سموهم الأدبي المختلفة من العصر الجاهلي وعصر صدر الإسلام والعصر الأموي والعصر العباسي في أطواره الأولى الذهبية، باستثناء العصر العثماني الذي تحولت فيه قبلة الخلافة الإسلامية من بيئة عربية إلى بيئة أجنبية وهي البيئة التركية، ولاجدال في أن الدولة العثمانية مع ما لها من دور في النهوض بالفنون الإسلامية أهملت اللغة العربية وأنواع أدبها فضلا عن التيارات الفكرية والنزعات الأدبية والاتجاهات النظرية التي توارثها العرب من جيل أصحاب المعلقات إلى جيل شعراء البلاط، رغم أن هنالك من يرفض توافر النزعات الأدبية التي –يُزعم- أنها متوافدة من الآداب الغربية إما فرنسية أم ألمانية أم إنكليزية، ولم يكن العرب مطلعين عليها قبل حملة نابليون على مصر.
 وهذه الفكرة الشائعة فيما بيننا هي نفسها ترمز إلى خلل كائن في هذا النقاش، فكيف لأدب حوى مساحات زمانية ومكانية طويلة تستغرق زهاء ألف سنة، انطلاقا من العصر الجاهلي الأدبي حتى غاية العصر العباسي أنه عاش وساد وسما سمو السماء والكواكب ولكن من دون أن تكون له نظريات واتجاهات.
هل كان الأدب العربي الكلاسيكي مجرد ألفاظ وكلمات وحروف وعلامات وصناعات بديعية وبلاغية وعبارات مقفاة ومسجعة؟ هل كانت النصوص المنظومة والمنثورة القديمة من شعر المعلقات، وشعر النقائض والغزل الإباحي والعذري والجنوني، وشعر البلاط العباسي، ومن نثر ألف ليلة وليلة فارغة عن روح الرمزية والرومانسية والواقعية والوطنية؟ وهل يتصف الأدب العربي الحديث إذا لم يرحب بأشكال الشعر المستوردة من الآداب غير العربية أنه أدب ضيق، وغير قابل للتعبير عن الطبيعة، والمجتمع، والكون، وغير كفو لمواكبة العصر ومسايرته إذا لم يتخل عن رداء الوزن والقافية والرديف؟ هذه أسنلة ذات قيمة شكلية ومضمونية ونظرية سوف نحاول الإجابة عنها في هذه الدراسة، معالجين النصين كليهما : المنظوم والمنثور، ومن  العصرين كليهما: القديم والحديث.
ماهي النظريات في الإطار الأدبي؟
هل هي إبداعات أدبية؟ أم هي فلسفة؟ أم مبادئ نقدية لدراسة الأدب؟ أم  موازين ومقاييس لوزن القيمة الأدبية وتثمين الجهود الإبداعية، وتقييم النصوص الشعرية والنثرية؟ أم النظريات ذاتها هي أدب؟ ثم ينطرح سؤال آخر إبان هذا النقاش، هل النصوص الأدبية تظهر أولا أم النظريات الأدبيات؟ وهذا السؤال مثله كمثل سؤال أن اللغة أولا أم قواعدها؟ فطبعا نشأة اللغة تسبق نشأة قواعدها، وكذلك نشأة النصوص والإبداعات الأدبية تسبق نشأة النظريت، فالنظريات مطبوعة بالطابع الفسفي والنقدي كذلك الذي يفتح للناقد والمفكر والمحلل والمؤرخ آفاقا ووجهات أنظار مختلفة لتقييم النص الأدبي ، فلا غرو أن يتسم نص أدبي واحد بالعديد من النظريات حسب معتقد الناقد والمحلل الأدبي، سنحاول خوض هذه الفكرة في هذه الدراسة بإذن الله .
إذا تسلمنا أن النظريات ودراستها والبحث فيها وعنها في الإبداع الأدبي هي وظيفة من وظائف الناقد الأدبي كما هي مسؤولية من مسؤوليات المؤرخ الأدبي وبتعبير آخر هي عمل من أعمال الأدب الوصفي المرتبط بالأدب الإنشائي الشامل النصوص الأدبية شعرا ونثرا حيث يمر المبدع بها دون أن يشير إلى النظرية أو النزعة التي يتسم بها نصه، فالناقد الأدبي هو الذي يتطرق إلى البحث في مضامين النصوص الأدبية وفحصها وتتبعها واستنتاج ما تتسم به النصوص من اتجاه أو نزعة على أساس مبادئ وأصول يضعها الناقد ذاته من عند نفسه، فللجرجاني مبادئه في التحليل البلاغي والنقدي للنص[1] وقتما كان النقد والبلاغة غير منفصلين انفصالا تاما، وللجاحظ أصوله ومبادئه في بيان المعاني النصية وتبيينها[2]، ويذهب ابن رشيق إلى مذهب آخر في مناقشة اللفظ والمعنى، ومعالجة الوحدة العضوية للقصيد[3] ولكن المبادئ التي يعتمد عليها نقده هي ما وضعها هو نفسه وليست بإبداع صاحب النص، ولا نجد النقاد الآخرين من العصر القديم مختلفين عن هذا الإطار النقدي فكل من أبي القاسم الآمدي في "الموازنة بين الطائفتين" ، وابن سلام في"طبقات الشعراء"، وقدامة بن جعفر في "نقد الشعر" ، وعبد العزيز الجرجاني في "الوسساطة بين المتنبي وخصومه"، وأبو هلال العسكري في "كتاب الصناعتين"، وأبي علي الحسن بن رشيق في "العمدة في صناعة الشعر ونقده"، وفي "قراضة الذهب في نقد أشعار العرب"، وابن الأثير في المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" يضعون مبادئ ويدرسون النص الأدبي، إن النصوص تبقى صامدة وثابتة على حالها مع الحروف والكلمات والوزن والموسيقى، ولكن أساليب نقدها تتغير وتتطور حسب الظروف والمقاييس والموازين، وفق مفارقات المساحات الزمانية والمكانية، متأثرة بما يجري ويطرأ على المجتمع من تقلبات وثورات اجتماعية وثقافية وسياسية ودينية واقتصادية، وكما للاستعمار أثر قوي في توليد اتجاهات جديدة ، فإنه يؤدي إلى وجود أبطال يضحون ويستميتون في سبيل الحرية.
كان الناقد الأدبي في العصور القديمة لايتجاوز البحث في الأغراض الشعرية الجاهلية من الفخر والحماسة والمدح والوصف والغزل والنسيب والتشبيب والاعتذار والحكمة ثم الهجو والنعت ولايتكلم إلا عن الموسيقى والجمال الشعري وروعة التعبير ، كانوا يحتكون ولكن نطاق احتكاكهم لم خارج البيئة العربية، ولكن آفاق الاحتكاكات الثقافية والسياسية ظلت إلى أبعاد مختلفة وعميقة منذ مطالع العصر الحديث، وباتوا يرحبون بكل ماوجدوا من آراء ونظريات في مهاجرهم باسم التجديد والتحديث والمعاصرة.
 وضع الفلاسفة والنقاد والمحللون السياسيون والأدبيون نظريات ونزعات أدبية شتى عالجت الأدب في إطار ثقافي وسياسي وفلسفي واجتماعي واقتصادي وطبعي، وتواجدت هذه النظريات إثر ما  شهدت الآداب العالمية تغيرات مختلفة وتطورات هائلة في الدولة والمجتممع، فتقبلها أصحابها بقبول حسن، وسايروها، ورحبوا بها في جميع الآداب، وهذه النظريات بصفتتها موازين ومقاييس لدراسة الأدب وجدت مكانا لائقا في آداب العالم، كما وجد بعضها  مكانا رحبا في الأدب العربي أيضا، وقام النقاد والمفكرون بتحليل النصوص في منظور هذه النظريات في العصر الحديث ثم في الأدب المعاصر، نريد هنا إطلالة سريعة على النظريات التي احتلت مكانا في آداب العالم ثم نحاول تطبيق بعضها مع النصوص الأدبية العربية، فالنظريات هي :
الاحتفالية (الكرنفالية) (Carnivalism) هي من ابتكار المفكر والناقد الروسي السوفييتي ميخائيل باختين في عام 1929م، وهي عبارة عن دراسة النصوص الناجزة في المناسبات وموسم الزراعة والحصاد والأعياد.
والأخلاقية (Ethics)  من ابكار أفلاطون في الجمهورية، وظلت ممارسة عبر العصور منذ ثلاثة وعشرين قرنا.
والاستشراقية (Orientalism) وهي  نقطة اتصال أو همزة وصل بين الشرق والغرب في دراسة التاريخ والسياسة والاقتصاد والثقافة والأدب والفن والحضارة والديانة فالشرق يتأثر بالغرب وكذلك الغرب متأثر بالشرق، وتوطدت هذه النظرية الدراسية بالمستعرات الأوربية بوجه مخصوص.
والأسلوبية (Stylistics) وهي دراسة النصوص الأدبية في منظور لغوي أومنهج لغوي، فاللغة العامة طبعا تختلف عن اللغة الأدبية، فالأسلوبية هي التحليل اللغوي للنص، والناقد والمؤرخ الفرنسي جورج لويس بيفون عام 1753م طور هذه النظرية لنعوم شومسكي دور فعال في تغذيتها.
الأنثروبولوجية (Anthropological Structuralism)  وهي دراسة الفكر الأسطوري أو الخرافي الناتج على أيدي المجتمعات، ابتكرها وغذاها المفكر الفرنسي كلود ليفي في كتابه "العقل البدائي أو الوحشي" في عام 1966م.
أما النظرية الإنسانية(Humanism)  فأفلاطون أول من حاول دراسة الأدب في مقياس الإنسانية أن الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان، وهو  غير كامل في طبيعته، ولكنه مواصل الخطى في نيل كماله.
وظهرت الانطباعية أو التأثرية(Impressionanism)  في الفن التشكيلي كثورة على هيكلية الكلاسيكية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر لفصل الفن التشكيلي عن الأساليب التقليدية، وربطه بالحياة المعاصرة التي يعيشها الإنسان في وقت ذاته، والانطباعية في رؤية المصور الفرنسي "المادة  الأولى للفن الصادق والأصيل تكمن في الانطباع الذي يحدثه موقف معين أو منظر معين في نفس الفنان" [4].
الانفعالية(Emotionalism)  ابتكرها أفلاطون وغذاها أرسطو ولونجينوس، ولها دور إيجابي في الإبداع الفني الأدبي ، وهي القوة المتحركة والشعلة المتوهجة للإبداع، ثم باتت نظرية أدبية قوية، حذا حذوها إليوت ثم الشاعر الرومانسي الإنكليزي وليم وردزورث، وهي عنده التدفق التلقائي للمشاعر، وتجميعها وصياغتها في هدوء وتأمل.[5]
أما الأيديولوجية(Ideology)  فهي كامنة في إنجاز كل أديب وشاعر ، هل يمكن أن يخو نص أدبي ما عن وجهة نظر ما ، إما سياسية أم اجتماعية أم دينية أم أخلاقية، بدا النقاد منذ مطلع القرن العشرين يحللون الإبداعات الأدبية الموروثة من منظور أيديولوجي،
وبرأي المفكر والناقد الألماني ياكوب باريون في كتابه "ما الأيديولوجيا؟" عام 1967م أن هذا المصطلح مستلهم من الفلسفةالفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي.
البدائية (Primitivism) المتمثلة في التقدم البشري المثالي السالف المملوء بالبطولات الثابتة ضد النظرية المستقبلية التي هي ليست سوى احتمالات واحلام غير محققة، ظهرت في القرن السابع عشر في شعر وقصص الأدباء الإنكليز  والفرنسيين ثم تبلورت كنظرية نقدية في مستهل القرن العشرين.
البارناسية (Parnassianism)المنسوبة إلى جبل بارناس اليوناني الذي كمعتقدات الأساطير الإغريقية هو مقر آلهة الشعر، وينسجم مدلو البارناسية مع مصطلح الفن للفن، وعند البارناسيين ليس الإبداع الأدبي إلا لجمال ذلك الإبداع من دون أثر  له في المجتمع والأخلاق وتشكيل العقول والأذهان وتغيير المجرى، توطدت هذه النظرية بعد عام 1848م على يد الشاعر الفرنسي تيوفل جوتيه كثورة ضد الرومانسية، لها علاقتها مع المعيار الشعري والفن العالي الذي يتكون على جبل بارناس الشعري.   
والنظريات الأدبية الأخرى التي صارت مقياسا لدراسة الأدب وتحليل النص هي : البنيوية(Structuralism) ، والتاريخية(Historicism) ، والتجاوزية(Transcendentalism) ، والتجديدية(Innovationism) ، والتجريبية(Empericism) ، والتجريدية(Abstractionism) ، والتشاؤمية(Pessimism) ، والتصويرية (الإيماجية)(Imagism)، والتطورية(Evolutionism) ، والتعادلية(Equalism) ، والتعبيرية(Expressionism) ، والتفسيرية(Hrmeneutics) ، والتفكيكية(Deconstruction) ، والتكوينية (الجينية) (Genetics)، والتلقائية(Spontaneity) ، والجذرية(Thematics) ، والحداثية(Modernism) ، والحدسية(Intuitionism) ، والدادية (Dadaism)، والرعوية(Pastoralism) ، والرمزية(Symbolism) ، والرومانسية(Romanticism) ، والسوسيولوية(Sociological criticism) ، والسياقية(Contextualism) ، والسيريالية (Surrealism) ، والسيكولوجية(Psychological theory) ، والسيميوطيقية(Semiotics) ، والشعرية(Poeticity) ، والشكلية(Formalism) ، والصوفية(Mysticism) ، والطبيعية (Naturalism) ، والظاهرية(Phenomenology) ، والعبثية(Absurdism) ، والعدمية(Nihilism) ، والعقلانية(Rationalism) ، والعلمية(Scientism) ، والفن للفن(Art for art’s sake)، والقصدية(Intentionalism) ، والقومية(Nationalism) ، والكلاسيكية(Classicism) ، ومابعد الحداثية(Post modernism) ، وما بعد الكولونيالية(Post colonialism) ، والماركسية(Marxism) ، وماقبل الرفاييلية(Pre-Raphaelitism) ، والمثالية(Idealism) ، ومدرسة براغ(Prague School) ، ومدرسة موسكو(Moscow School) ، ومدرسة ييل(Yale School) ، والمستقبلية(Futurism) ، والملحميةEpic theatre) ، والموضوعية(Objectivism) ، والميتافيزيقية(Metaphysics) ، والنسبية(relativism) ، والنسوية(feminism) ، والنصية(Textualism) ، والنقد الجديد(New criticism)، والنيو كلاسيكية(Neoclassicism) ، والواقعية(Realism) ، والوجودية (Existentialism)[6] .   
الرومانسية ومدلولاتها :
مرت الرومانسية بتغيرات دلالية مختلفة، وهي:
1-           في القرن السابع عشر الميلادي عبارة عن الخيال الجامح والغرام الملتهب .
2-           ثم تطور مدلولها وعم، وأصبح تعبيرا عن التأمل الفلسفي في الكون والحياة الطبيعية، والحزن على تدهور كل بعد اكتماله ونضجه،
3-           والرومانسية لغة في اللغة الفرنسية مشتقة  من "رومانس" بمعنى القصة أو  الرواية خيالية كانت أم واقعية، ثم نرى الناقد الفرنسي ليتورنير عام 1776م يستخدم الرومانسية نظرية أدبية دالة على التفكر العميق في النفس والحياة والحرية والحب والألم والأمل، وفي رؤيته هذه مقياس للانفعالات النفسية المنبعثة عن الألم والأمل.
4-           وفي أواخر القرن الثامن عشر يجد هذا المصطلح مكانا نظريا في الأدب العربي،
5-           ثم يطوره الأدب الإتكليزي في القرن التاسع عشر ، ويوسع مدلوله، ويجعله تعبيرا عن التغني بجمال الطبيعة بمعزل عن المعتقدات الصناعية والتأزمات الحضارية، وكل ما هو ناتج عن الثورة الصناعية.
6-           ثم يتمثل هذا المصطلح عند الناقد الألماني "فردريك شليغل" مناقضا للكلاسيكية، ويظل نظرية أدبية وحركة نقدية رافضة جميع التقاليد الكلاسيكية، ومرحبة بكل تجديد لا في الشعر والأدب فحسب بل في جميع المجالات من الفنون الجميلة والتطبيقية، والسياسة، والعقيدة، والأخلاق، والفلسفة، والتاريخ والطبيعة البشرية،
7-            ثم نرى الرومانسية تنقسم إلى ذاتية وموضوعية، تتمثل الرومانسية الذاتية في أعمال الإنكليز، بينما الموضوعية تتمثل في الأدب الفرنسي، فنرى نقادنا العرب منقسمين إلى هذين المفهومين المختلفين للرومانسية، فأصحاب مدرسة الديوان من شكري العقاد والمازني متأثرين بالإنكليز وأدبهم فهم يمثلون الرومانسية الذاتية المنبعثة عن الوجدان والمشاعر معبرة عن الأحزان والبؤس والألم والمأساة فهي إلى حد كبير  تمثل التشاؤمية فيقول شكريك
وما الدهر إلا البحر والموت عاصف  عليه وأعمار الأنام سفين
ثم يقول :
أ ألقى الموت ولم أنبه بشعري          ولم يعلم سواد الناس أمري
وفي نفسي من الأبد اتساع                   تدور الكائنات بها وتجري
ولكن الدهر عند الشاعر العباسي الفحل أبي الطيب المتنبي غير دهر ممثلي الرومانسية التشاؤمية فالدهر عنده حيث قال:
وما الدهر إلا من رواة  قصائدي         إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
لانرى المتنبي يتشاءم ويكتئب بعد كل ما يعاني في بعض الأحوال من قسوة وسآمة، فهو صاحب
الخيل والليل والبيداء تعرفني            والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فلماذا لاندرس شعر  المتنبي في منظور النظرية التفاؤلية في مثل هذه الأبيات، دائما حاولنا رمي سهام الجبان وضعف الهمة إلى الشعراء، ولكن المتنبي في هذا البيت فارس وقانص ومحارب محنك ورجل علم وأدب وثقافة، وعندما نوازن الدهر المتمثل في شعر شكري والمتنبي نجد المتنبي  على قمة من التقدم والطموح والرفعة والسمو ربما لأنه يمثل تلك القمة المرتفعة التي بناها أصالة العرب في المجد والكرم والحماسة والفخر وعبقريتهم في الفصاحة اللغوية والبلاغة التعبيرية التي توارثها من العصور التي سبقتهم، وفي جانب آخر نرى أصحاب مدرسة الديوان باكين ومكتئبين لأن عربيتهم مخلوطة من حضارة تتأزم ولكن تستطيع تحمل مشاق ما يصيب دهرها،
وما رأيكم في أنين وزفير امرئ القيس على مفارقة حبيبته في الأبيات التي قالها غداة البين:
كأني غداة البين يوم تحملوا        لدى سمرات الحي ناقف حنظل
وإن شفائي عبرة مهراقة           فهل عند رسم دارس من معول
ففاضت دموع العين مني صبابة    على النحر حتى بل دمعي محملي
ثم يخاطب حبيبته بطريقة اعتذارية :
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل      وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجمل
وإن  تك قد ساءتك مني خليقة   فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
   أغرك مني أن حبك قاتلي             وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وأما سيل الدموع من عيون الحبائب، بصفته كناية عن سيل حبهن الذي يمور ويفيض في دواخلهن فليس هذا بأسلوب حديث بل نجد ذلك في شعر امرئ القيس والمتنبي أيضا:
لامرئ القيس:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي             بسهميك في أعشار قلب مقتل
وللمتنبي:
مثلت عينك في حشاي جراحة    فتشابها كلتاهما نجلاء
فهل تجدر هذه الأبيات الشعرية أن تقاس وتوزن بمقياس النظرية الرومانسية ؟
وعن أية نظرية أدبية تقاس هذه الأبيات للملك الضليل:
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة            فقالت: لك الويلات إنك مرجلي
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع   فألهيتها عن ذي تمائم محول
إذاما بكى من خلفها انصرفت له بشق وتحتي شقها لم يحول
وبيضة خدر لايرام خباؤها         تمتعت من لهو بها غير معجل
فجئت وقد نضت لنوم ثيابها             لدى الستر غلا لبسة المتفضل
إلى مثلها يرنو الحليم صبابة        إذاما اسبكرت بين درع ومجول
لاتحكي هذه الأبيات قصة حزن وألم، ويأمل بها الشاعر في شيء، إنما يصور واقعه، كأنه يصور بآلة فوتوغرفية، فهل يمكن قياس هذه الابيات بالنظرية الواقعية؟
وأما القومية والحنين إلى الوطن والحب للحبيب الأول فقد غنى به أبوتمام :
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى        وما الحب إلا للحبيب الأول
وكم منزل في الأرض يألفه الفتى          وحنينه أبدا لأول منزل
والبارودي الذي تعود إليه ريادة الشعر العربي الحديث، وإمامة الكلاسيكية الحديثة، لا يخلو شعره عن حبه للدين والوطن :
فهل دفاعي عن ديني ووطني ذنب        أدان به ظلما فأغترب
لو لا مكابدة الأشواق ما دمعت        عين  ولابات قلب في الحشاي يجب
فيا أخا العذل لاتعجل بلائمة            علي فالحب سلطان له الغلب
فكيف أكتم اشواقي وبي كلف           تكاد من مسه الأحشاء تنشعب
أبيت في غربة لا النفس راضية            بها ولاالملتقى من شيعتي كثب
فلارفيق تسر النفس طلعته         ولاصديق يرى مابي فيكتئب
أليست هذه الأبيات أن توزن بالنظرية القومية؟
الخاتمة:
دراسة الشعر القديم في منظور الأغراض الشعرية من المدح، والفخر، والحماسة، والغزل، والتشبيب، والنسيب، والهجو، والاعتذار، والحكمة، والنعت، ثم تواجد شعر النقيض، والغزل العذري، والغزل الإباحي، وغزل الجنون، ثم البحث في قضية الانتحال والسرقات الشعرية، وقضية اللفظ والمعنى، والوحدة العضوية للقصيدة، ثم الموازنة بين شاعر وشاعر، واتسام القريض بالموسيقى والتنغم والجمال الشعري، وروعة الألفاظ والكلمات وبلاغة المعنى، وفصاحة التعبير، ذلك كله يبعث الناقد الأدبي المعاصر على دراسة النص الأدبي في منظور النظريات الأدبية التي وجدت مكانا رحبا في آداب العالم، أكيد أن الرومانسية والرمزية والكلاسيكية والكلاسيكية الحديثة، والبنيوية، والأسلوبية والتفكيكية والواقعية، والحداثية، وجدت مكانا في القاموس العربي ولكن كل نظرية رحب بها أدب من آداب العالم  يستحق كل الاستحقاق أن يرحب بها الأدب العربي أيضا لا لأن يجعله أدبا متدهورا ومنعزلا عن أصالة اللغة العربية، وجمالها وفصاحتها بل ليكون أدبنا أن يساير  ويشارك الآداب العالمية الأخرى رقيها وتقدمها وطموحها مرحبا بكل ما يتوافر في الكون من نافع وجميل ترقى بهما الأمم وتتقدم خطاها الحضارية والثقافية إلى الأمام.
وشكرا         



[1] - أنظر: عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة،
[2] - البيان والتبيين،
[3] - أنظر العمدة في صناعة الشعر ونقده،
[4] - موسوعة النظريات الأدبية، ص: 62.
[5] - المصدر نفسه، ص: 69.
[6] - أنظر: دكتور نبيل راغب، موسوعة النظريات الأدبية، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، 2003م. 

Comments

Popular posts from this blog

الثنائية اللغوية بين اللغات الهندية والعربية الفصحى

الأستاذ محمد ناظم الندوي شاعرا.