"الوعي الإسلامي في كتابات النورسي:

"الوعي الإسلامي في كتابات النورسي:

دراسة في رسائل النور"

(قمرشعبان الندوي)

(مقالة عرضت في الندوة الدولية عن:"التعايش السلمي في العالم المتعدد الثقافات، في منظور رسائل النور، لبديع الزمان سعيد النورسي، التي نظَّمها مركزالدراسات العربية والإفريقية، بجامعة جواهر لال نهرو، نيودلهي، الهند، خلال:1-2فبراير2012م، الأربعاء والخميس)

التمهيد:

ما فتئ الاستعمار الأوروبي مشمرا عن ساق جده لاستئصال جذور القيم الإسلامية القرآنية من: معتقدات التوحيد، والسلوكيات المزكاة النقية المتنامية، والعمران المتطور المتسلح بكل الأساليب المفيدة المنتجة منذ زمان، بأسماء خلابة جميلة: كالعولمة، والكوكبة، والنظام العالمي الجديد. وقد اخترعت البلدان الأوربية تقنيات، وأدوات، وشبكات إلكترونية لإنجاز وتحقيق أغراضها المنشودة، حتى قادت هذه المدنية الغربية الإنسانية إلى الحربين العالميتين: الأولى، والثانية لإشباع أطماعها المادية، والسيطرة السياسية، والاقتصادية، والعلمية، والتكنولوجية(1). فمالبث شعب من شعوب هذه المعمورة إلا أن تأثر بما ابتدعه الغرب لهذا النفوذ، الذي"فيه إثم كبير ومنافع للناس"(2).

إن أساليب الغرب وحضارته وثقافته تأثرت بها عقول الإنسان بما فيه العرب وغيرالعرب، والمسلم وغير المسلم، ولم تكد المناهج الثقافية، والتعليمية، والسلوكية، والتفكيرية للمسلمين آمنة من هذه النعرات المعولمة المزخرفة التي لايزال يصرخ بها الغرب، ويرن صداها في كل بقعة من بقاع المعمورة، رغم مافيها من فساد للقيم الإنسانية الإسلامية، وتدمير للعمران والمجتمع، وهتك وفتك وسفك لدماء أبرياء الأمم والشعوب إذ بلغ عدد الذين أصبحوا ضحية الحربين العالميتين: الأولى، والثانية، أكثر من قتلى جميع الحروب منذ بدء التاريخ الإنساني(3)، كما وقد شوّهت الحقائق التاريخية الإسلامية التي حققت صلاحها تجاه المجتمعات البشرية، وصلاحيتها لتمكين المسلمين من إعمال كفاءاتهم وقدراتهم لإسدال الخير، ولتوليد بيئة متعايشة التعايش السلمي.

وضع تركيا المحتلة:

فطفق المسلمون يبتعدون عن أصولهم الإيمانية الثابتة، وقد بدّلت في تركيا لغة الأذان من العربية بالتركية، وغير الخط التركي المكتوب بالعربية إلى اللاتينية، وأغلقت أكثر من 300 مدرسة إسلامية، وقد حظر النفوذ الأتاتركي المغرَّب أن يرتدئ الشعب التركي العمامة والعباءة، وكما منعت الطالبات في الجامعات، والموظفات في الدوائر الرسمية من لبس الزي الإسلامي الذي فرضه عليهن الإسلام، وبلغت الفعاليات الحكومية لسد مدراس الأئمة والخطباء مبلغها، ولم تدخر إسرائيل وسعا في التعاون معها، وتلاقت الأوقاف الإسلامية بأنواع من المضايقات،(4) حتى صار الشعب التركي لايستطيعون أن يدركوا ما يجري حولهم في المناهج التعليمية والتفكيرية والسلوكية من الخلل، وذلك كله فقط لفقدان هذه الأمة الوعي الإسلامي، والثقافة الإسلامية، فأصبح الإسلام في هذه الظروف المتأزمة القاسية على مصداقية قول الرسول الكريم-صلى الله عليه وسلم-، : "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء"(5).

مؤامرة الاستعمار البريطاني ضد القرآن:

وفي عام1894م وقف الوزير البريطاني(غلادستون) في مجلس العموم البريطاني، وهو يحمل المصحف القرآني بيده، ويهزّه على رؤوس النواب الإنكليز، ويقول لهم بأعلى صوته:

"مادام هذا الكتاب موجوداً، فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان. لذا، لا بدّ لنا من أن نعمل على إزالته من الوجود، أو نقطع صلة المسلمين به".(6)

رد النورسي على المؤامرات الاستعمارية:

لقد تألم الشاب التركي بديع الزمان سعيد النورسي لما خططته الأيادي المستعمرة ضد الإسلام والمسلمين وضد القرآن وتعاليمه السمحة، وصرخ بقولته التاريخية:

"لأبرهننّ للعالم أجمع، بأن القرآن العظيم شمس معنوية لا يخبو سناها، ولا يمكن إطفاء نورها"(7) وقال:

"لا بد أن نحيا حياتنا الإسلامية، وننظمها بالمبادئ الإسلامية، حتى ننتفع بها في واقعنا اليوم، ونستفيد منها في حياتنا الأخروية".(8)

التكامل المعرفي عندالنورسي:

لقد بذل النورسي لمواجهة هذه التحديات كل غال ورخيص، وأنجز لذلك كتبا ومؤلفات ورسائل بأسلوب يؤثر على عقل الإنسان المعاصر. وقد تمسك في جميع جهوده الإصلاحية الإيمانية، وإنجازاته التعليمية والتربوية بالوعي الإسلامي السليم، والمنهجية الإسلامية المتكاملة التي تمحورت حول مصدرين: القرآن، والكون.، والنورسي بنفسه درس العلوم الكونية الطبيعية، (من الرياضيات، والفلَك، والكيمياء، والفيزياء، والجيولوجيا) والجغرافيا والتاريخ والفلسفة الحديثة، بالإضافة إلى دراسته لعلوم الشريعة_(من القرآن والحديث والفقه الإسلامي)_التي بدونها يستحيل للإنسان أن يعيش كإنسان يؤمن بخالق الكون ويؤمن بربوبيته المطلقة، وألوهيته الخالصة النقية من أرجاس الشرك.

وأدرك النورسي أن الأمة في حاجة ملحة إلى أن تعي ما حولها بمنظار المنهجية الإسلامية، وبالفكر الإسلامي النيّر، وتطبقها في إنجاز ما تقتضيه من الوعي، والثقافة، و"الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها".(9)

رسائل النور:

لقد تأمل النورسي في الكون ونظامه، وتفكر بدقة وعمق في القرآن الكريم، وما له من إعجاز دال على قدرة الله تعالى، ووحدانيته، وحكمته الكامنة في هذا الخلق، وكتب بنفسه وكما أملى تلاميذه هذه التأملات الخيالية المستخلصة المستلهمة من الآيات البينات للقرآن الكريم، وأسماها بـــــــــ"رسائل النور" التي بلغ عددها 130 رسالة، وقد عالج في هذه الرسائل المشاكل والمعوقات التي أرغمت الأمة كلها أو جلها على الابتعاد عن الوعي الإسلامي وتطبيقه في الحياة الفردية والجماعية في مجالات التعليم والتربية والمعرفة والتفكير والبحث والسلوك تذكيرا بالإشارة القرآنية في مثل هذه الآية :

"أفلم يسيرو في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور".(10)

وقدم فيها تشخيص واقع الأمة وحلولا ناجحة وناجعة لإصلاحهم التربوي، وترشيدهم إلى الخط المستقيم من الصراط السوي الذي كلفهم الله تعالى اتباعه في قوله:"إن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله".(11)

وأكّد النورسي في كل كلمة من كلماته، وفي كل رسالة من رسائله، وفي كل مكتوب من مكتوباته، على أن "المعرفة بالله تعالى" هي القطب الوحيد الذي يلزم أن تدور حوله رحى الحياة الإنسانية على بكرة أبيها.

سمات المنهجية الإسلامية في كتابات النورسي:

ويتوصل من يطل إطلالة ولو سريعة على رسائل النور إلى أن الوعي الإسلامي هو السمة البارزة والصفة اللازمة لها، وتتمحور هذه الرسائل حول المنهجية الإسلامية التي تتأسس على أربع مدارس:

1- مدرسة المنهج العقلي الفلسفي/الكلامي.

2- مدرسة المنهج الذوقي الصوفي.

3- مدرسة المنهج العلمي الطبيعي.

4- مدرسة المنهج الفقهي التشريعي.(12)

فقد تتبلور سمات هذه المدارس المنهجية الإسلامية في كتابات النورسي بتسلسل مترابط في عباراته، وإبداعية في أسلوبه، وحجة قوية دامغة في تناول الأمور الغيبية الإيمانية، وكما تبدو جليا في كتاباته قدرته على الاستشهاد بأمثلة مقنعة يرتبط بها الشعور بالعاطفة والوجدان، والعقول بالقلوب. وذلك كله على أساس الرؤية التوحيدية المستنتجة من الوحي القرآني الأول: "إقرأ باسم ربك الذي خلقº خلق الإنسان من علقº إقرأ وربك الأكرمº الذي علَّم بالقلمº(13). فثمة قراءتان، قراءة المخلوق، وهو الكون ومافيه من إنسان، وجبال، وبحار، وجماد، ونبات، وهلم جرا. والقراءة الأخرى هي قراءة المكتوب، وهو القرآن الكريم وما فيه من عقيدة، وشريعة، وأحكام.

فالنورسي دائم الاستشهاد بالقرآن الكريم، وطالما يختم رسائله بآيات قرآنية، إما أنها تتضمن الأسماء الحسنى، وإما أنها تحث العقل على التفكير، والتدبر فيها، وكما هو يعتقد اعتقادا واثقا بأن القرآن هو المؤسس لهذا الدين المتين، والمقلب لاجتماعيات البشر، ومحولها ومبدلها، والقرآن هوا الجواب لمكررات أسئلة الطبقات المختلفة للبشرية، ويعرّف النورسي القرآن الكريم بتعريف حيٍّ ينسجم مع الأحداث والوقائع المعاصرة، وجامع بين الدين والدنيا، فيقول:

"هو أساس وهندسة وشمس لهذا العالم المعنوي الإسلامي، وهو خريطة للعالم الأخروي، وكذا هو مُربٍّ للعالم الإنساني، وهو المرشد الهادي إلى ما خلق البشر له، وكما أنه كتاب دعاء وعبودية، كذلك هو كتاب أمر ودعوة، وكما أنه كتاب ذكر، كذلك هو كتاب فكر".(14)

ويقول:

"كلما شاب الزمان، شب القرآن وتوضحت أموره".(15)

ولا يرى النورسي ما عدا القرآن وسيلة لإزالة الجهل والطغيان، فيقول:

"نقضي على ظلمة الجهل برسالة القرآن".

والنورسي يقرأ الكون، ويتفكر في الطبيعة، وهو على شواهق الجبال، فيطبق تأملاته بالقرآن، ويستخلص منه معاني دقيقة ولطيفة تترشح وتتجلى فيها الحقائق الإيمانية، والقدرة الربانية، والتصرفات الإلهية.

ففي المكتوب الثالث سجّل النورسي تأملاته حول الكواكب: من الشمس والقمر والنجوم، استفادة من الآيات القرآنية: "فلا أقسم بالخنَّس الجوار الكنَّس"(16)، "والقمر قدَّرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم"(17)، "سبحن الذي سخَّر لنا هذا وما كنا له مقرنين"(18)، فقد أسهب الكلام عن كل آية من هذه الآيات القرآنية، وطبّقها تطبيقا متكاملا بين العلم والإيمان، والمعرفة بالله تعالى.

ومن دأب النورسي أنه طالما يستهل مكتوباته من رسائل النور بآية قرآنية: "وإن من شيئ إلا يسبِّح بحمده"(19)، فبداية كل المكتوب أو جله بهذه الآية، تدعو القارئ إلى التأمل في مثل هذه الآيات التي يستند مدلول بعضها ببعض، فورد في سورة الرعد: "ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته"(20) وفي سورة الأنبياء:"وسخَّرنا مع داؤودالجبال يسبحن والطير"(21)، وفي سورة الحج:"ألم تر أن الله يسبِّح له من في السماوات والأرض والطير صافَّات"(22)، وفي سورة السبا:"يا جبال أوِّبي معه والطير" (24)، وفي سورة ص: "إنا سخَّرنا الجبال معه يسبحن بالعشيِّ والإشراق"(25)، وفي الإسراء: "تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن"(26)، لقد وردت في القرآن الكريم أكثر من خمسين آية في هذا السياق، فالنورسي لم يمر بها مرا سريعا، إنما هو في جانب يبين الوظيفة الطبيعية لها وفي جانب آخر يوضح المنهجية الإسلامية التي هي الغرض الرئيسي للقرآن.

فقد مثَّل النورسي في المكتوب الحادي عشر من رسائل النور تمثيلا إيمانيا رائعا عن تحرك واهتزاز أوراق أشجار الصنوبر والقطران والأرز حينما رآها رأي العين في منفاه على قمم الجبال بمنطقة "بارلا"، واستخلص منها معاني توحيد الربوبية والألوهية، والمعرفة بالله تعالى، وإدراك حقيقة الدنيا بأنها فانية لا بقاء لها، فقال، وهو يناجي خالق الكون:

"ترقص تلك الأشجار الشبيهة بالدلَّالات فرِحاتٍ عن نقش جمالك.

تنشى عن كمال صنعك مترنماتٍ بأصوات طيبةٍ.

كأن حلاوة أصواتها تُطرِبها أيضا، وتُغنِّجها غنجاً لطيفاً.

فمن آثار هذه الرحمة الإلهية يدرس كل حيٍّ ما يخصه من درس التسبيح والصلاة.

فبعد تلقي الدرس وقفت كل شجرة على صخرةٍ مرتفعةٍ رافعةً رأسها إلى العرش.

ومدّت كل واحدة منها مآتٍ من أيديها إلى باب الله تعالى كشهبازِ قلندر، واتخذت هيئة محتشمة من العبادة.

وتحرك غصونها الصغيرة شبه العُذُر، وبذلك تُذكِّر الناظرين أيضاً أشواقها اللطيفة وأذواقها العلوية، وترمز من طبقات أنغام العشق كأنها تصيب أرق الأوتار والأعصاب الحسَّاسة.

والروح فهم من هذه الحالة، أن الأشياء تستقبل بالتسبيحات تجلِّياتِ أسماءِ الصانع الجليل......فما يُسمع! هي زمزمة تدلّل وتضرع.

والقلب يتلو من علو نظم هذا الإعجاز سرَّ التوحيد من هذه الأسماء التي كل منها في حكم آية مجَسَّمة، يعني، أن في خلقتها انتظاماً، وصنعةً، وحكمةً خارقةً، بحيث لو فُرِضت جميع أسباب الكائنات فاعلةً مختارةً واجتمعت، لما قلَّدتها.

والنفس لما رأت هذه الكيفية رأت وجه الأرض جميعا، كأنه يتدحرج في زلزال فراق نائحٍ، فطلبت ذوقاً باقياً، فتلقَّت هذا المعنى، وهو، أنكِ تجدين في ترك حب الدنيا...!

والعقل يجد من زمزمة الحيوان والأشجار، ومن دمدمة النبات والهواء هذه، انتظامَ خلقةٍ، ونقشَ حكمةٍ، وخزينةَ أسرارٍ مفيدةٍ للغاية، ويفهم أن كل شيئ يسبح الصانع الجليل بجهاتٍ كثيرةٍ.

وهوى النفس تأخذ من همهمة الهواء، وهوهوة الأوراق لذةً تُنسِيها جميع الأذواق المجازية، فتريد أن تموت في ذوق الحقيقة هذا، بترك الذوق المجازيِّ الذي هو حياة تلك الهوى.

والخيال يرى كأن الملائكة الموكَّلين على هذه الأشجار، دخلوها ولبسوا الأشجار التي عُلِّقت بكل غصن منها مزامير كثيرة جسداً.

فكأن السلطان السرمديَّ ألبسها عليهم في عرض محتشم بأصوات آلاف المزامير، فليست تلك الأشجار أجساماً جامدةً بغير شعورٍ، بل إنها تُظهِر كيفياتٍ مفيدةً شعوريةً للغاية.

فإذا صارت الأشجار أجساداً، وأصبحت الأوراق ألسنةً، فإذا أن كلاً منها يكرِّر بآلاف ألسنةٍ، ذكرَ: "هو هو" بتماسِّ الهواء، وتعلن بتحيات حياتها أن صانعها حيٌّ قيُّومٌ، إذ الأشياء جميعاً في حلقة ذكر الكائنات العظيمة تُرتِّل: "لا إله إلا هو"(27).

فقد بيّن النورسي من خلال هذا التمثيل الوظيفة الطبيعية للأشجار، وأوراقها وغصونها، كما وضّح الفلسفة الإسلامية، والحكمة الإيمانية الكامنة فيها إلى أن قادته جولته الخيالية التأملية إلى محكم يقينه بهذه الآية الكريمة: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيئ شهيد"(28).

حقا أن النورسي قضى حياته على مائدة آيات قرآنية، واغترف من بحرها الفياض، ولكنه تتلمذ على كبار المصلحين، والمربين، وانتهل مما خلفه العلماء الصوفية من مؤلفات، فقد استفاد من:"فتوح الغيب" للشيخ عبد القادر الجيلاني، و"المكتوبات" للإمام أحمد السرهندي، واستخرج منهما الحقائق الإيمانية وأساليب التزكية الروحية، وكما اقتبس فقرات في بعض مكتوباته(29).

وطالما نراه يستدل بالطرق الصوفية المختلفة، ولكنه لا يرى التصوف كشيئ مستقل ومنفصل من الإيمان، فالتصوف عنده مظهرية للحقائق الإيمانية والقرآنية، وحلوة نورانية، وحركة روحانية، وحقيقة قدسية، وسرٌّ إنساني، وكمال بشري، والنورسي يرى التصوف برؤية توحيدية متكاملة بين الذكرالإلهي، والتفكر في السماوات والأرضين.

ثم التصوف عند النورسي أنس وتسلٍّ، فالإنسان لايكون كل حين وآن على حالة هدوء وطمأنينة، وإنما ترغمه اضطرابات الحياة على القلق والتوتر والتألم، فالإنسان في هذه الظروف يلجأ إلى أنس يُزيل عنه وحشته، ويُذهب كآبته وحزنه، فالتسلي الحقيقي عند النورسي هو تحريك القلب بواسطة الذكر الإلهي، والتفكر في قدرته.

والتصوف عنده سرّ لكمال: "الإسلامية"، وأفضل الطرق وأحسنها وأقومها فيما بين طرق التصوف، والولاية عند النورسي، هو اتباع السنة في الأعمال، واتباع الأحكام الشرعية في الأفعال والمعاملات.

والتصوف عندالنورسي، وسيلة وواسطة للحصول على الحقائق الإيمانية، ولا المقصود بذاته، فإذاً لا معنىً للتصوف عنده إذا خرج عن دائرة التقوى، ودائرة الأسس الإسلامية، فالتصوف عند النورسي يتمحور حول تسعة محاور:

1- انكشاف الحقائق الإيمانية.

2- تدوير القلب وتحريكه، وعن طريق التحريك ترشيده إلى الوعي الإسلامي السليم.

3- الالتحاق بسلسلة من الصالحين في عالم البرزخ والآخرة، وهذا المعنى مستفاد من الآية القرآنية:، "توفني مسلما وألحقني بالصالحين"(30).

4- التذوق بذوق المعرفة بالله تعالى عن طريق الإيمان.

5- الإحساس بالحقائق اللطيفة المتواجدة في الامتثال بالأحكام الشرعية المكلفة لها، كالصلاة، والصوم، والحج، والزكوة.

6- التوكل الكامل بمعنى: "ومن يتوكل على الله فهو حسبه"(31).

7- والإخلاص أهم شروط التصوف عندالنورسي للنجاة من الرياء والأنانية، والوقاية عن النفس الأمارة عن طريق التزكية.

8- تحويل العادات والمعاملات الدنيوية إلى حكم العبادة بالاحتساب والنية الصحيحة.

9- السلوك القلبي والمجاهدة الروحية لتكتمل في المسلم معاني الإنسانية، وليكون مؤمنا حقيقيا، ومسلما تاما، وعبدا مخاطبا لخالق الكون مباشرةً،(32) ولكي تتوفر لديه عناصر: "أحسن تقويم"، ممثلا للآية القرآنية: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم".(33)

الخلاصة:

إن الأزمات التي طرأت على العالم الإسلامي كان أكثر تأثيرها في الاعتقاد، والتفكير، والسلوك، والقيم، فأدت هذه الأزمات الفكرية إلى الفوضى في الأخلاق الإسلامية، والهوية الإسلامية، فجميع جهود النورسي نحو الوعي الإسلامي، والمنهجية الإسلامية تدور حول الجهات التالية:

1- تقوية الأسس الإيمانية، وتأصيل وتعميق جذور عقيدة التوحيد، والاحتفاظ بالقيم الإسلامية، وتزكية القلوب والنفوس. فقد تمكن عن طريق رسائله المتسمة بالمسحات العلمية الطبيعية، والفلسفية، والصوفية، من إثبات وجودالله تعالى، ووحدانيته، ومدى حاجة الإنسانية إلى الوحي السماوي، والرسالة المحمدية، وعقيدة الآخرة، والإيمان بالقدر، والمعرفة بالله تعالى.

2- ركّز النورسي مجهوداته على إصلاح المراكز التعليمية الإسلامية، وإنشاء مدرسة تجمع بين العلوم الكونية الطبيعية، والعلوم الإسلامية، وأكّد أن القرآن هو المصدر والأساس لمجالات الحياة. وأما العلوم والمعارف من شتى المجالات فهي تنفجر من الينبوع القرآني، فلا بد من تشييد البناء التعليمي، والمعرفي، وفق المنظورالقرآني.

3- لم تكن جهود النورسي الإصلاحية الإسلامية منحصرة في دائرة التنظير والتنهيج فحسب، بل كانت دعوته تتعدى وتتجاوز إلى التطبيق العملي كأسلوب الحياة الإسلامية، بمنهج سِلمي وعقلي، بعيداً عن التطرف والتزمت، والإفراط والتفريط.

4- تتجلى حياة النورسي في خضم رسائله كعلَم من الأعلام البارزين الذين قاموا بتشخيص واقع الأمة، وأدركوا الأزمة الفكرية، والمنهجية للأمة، فزوّدوا العالم بعطاء فكري، و وهبوا له وعيا منهجيا إسلاميا، للإصلاح التربوي، والترشيد الإيماني، على أساس الرؤية الإسلامية، التي تعتمد على القرآن والتفكر في الكون.

وأكتفي بهذا، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

Comments

Popular posts from this blog

الثنائية اللغوية بين اللغات الهندية والعربية الفصحى

النظريات الأدبية في الأدب العربي بين الأصالة والمعاصرة

جهود العلماء الهنود في المعجمية العربية