بين اللغة والأدب والمعجمية

بين اللغة والأدب والمعجمية

د/قمر شعبان الندوي
المعاجم هي المجموعة اللغوية، التي لها الفضل العظيم في الاحتفاظ بما تنطق الأمم فيما بينها من ألفاظ، وكلمات، وجمل، وبما تعبر عن حاجاتها، وضروراتها، في غدواتها، و روحاتها.
وكل لغة من لغات العالم، وكل أمة من أمم الكون مفتقرة إلى هذه الدواوين، والدفاتر، والسجلات اللغوية، لحفظ كلامها من الضياع، ولصيانتها من الخمول والنسيان. ولاتوجد في الكون أمة ذات حضارة، وثقافة اتخذت هذه الذخائر اللغوية هجرا مهجورا.
وأما الأمة العربية، وصلتها بآدابها، وافتخارها بلغتها فليس بشيء يستغرب، فما لبثت أن زعمت أنها أمة أدب، وشعر، وأمة لغة، فيها الحيوية، وفيها صلاحية التعبير عن كل سلوك، وحاجة، وعمل، وهي قابلة للتعبير عن أحاسيس الحزن، ومشاعر الفرح، والغبطة، والسرور، والانطباعات عن مواقف النجاح، والرثاء عند الأموات، و القلق عند الفشل.
 وقد زعم الزاعمون أن العربية ليست لها طفولة، ولاشيخوخة، إنما هي ولدت شابة ناضجة مكتملة، ذات قوة فاعلة، فيها العاطفة، والمنطقية، وفيها جمال يلتذ من نطقه اللسان، وتستعذب من سماعه الآذان، وأنها من أغنى لغات البشر ثروة لفظية، تستوعب، وتستقصي، وتكمل حاجات الأمة الحسية والمعنوية، ولديها ألفاظ دقيقة المفاهيم للتعبير عن كل صفة من صفات المخلوق، حتى للحيوانات من الأسد، والخيل مآت الأسماء، فقد كتب الوافي أن للأسد خمس مأة اسم، وللثعبان مائتا اسم، وللعسل أكثر من ثمانين اسما، وللسيف ألف اسم[1]، ولشعر الإنسان عشرات، وللكواكب وللأسلحة الحربية كذلك، مما يدل على صفاتها وهيئاتها المختلفة.    
واللغة العربية سبقت اللغات في مغازلة الحسان، والخرائد، إذ أنشد الملك الضليل امرؤ القيس:
تسلت عمايات الرجال عن الصبا              وليس فؤادي عن هواك بمنسل
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل                   وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجمل
وفي وصف الحصان، والركائب، فينشد الشاعر نفسه وصفا بالفرس:
مكر مفر مقبل مدبر معا                             كجلمود صخر حطه السيل من علِ
حتى لم يترك الليل إلا وقد وصفه، وحلكته، فما أبدع هذا الوصف!
                وليل كموج البحر أرخى سدوله                    علي بأنواع الهموم ليبتلي 
وفي الحماسة في ساحات الوغى، وفي الافتخار بالقبائل، والآباء، إذ غنّى بمجد قومه الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم التغلبي :
أباهند فلا تعجل علينا                 وأنظرنا نخبرك اليقينا
بأنا نورد الرايات بيضا                                 ونصدرهن حمرا قدروينا
 حتى افتخر التغلبي بالطفل الرضيع من قبيلته:
إذا بلغ الفطام لنا صبيّ                               تخر له الجبابر ساجدينا
ثم انظر مدى بلوغ افتخار ابن كلثوم بقومه، وبسطوته، ونخوته، وجبروته:
                لنا الدنيا ومن أضحى عليها         ونبطش حين نبطش قادرينا
وقال زهير في الحكمة :
                ومن لم يصانع في أمور كثيرة      يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
ثم ظهرت في هذه الآونة صنوف من الأدب، من: الخطبة، والوصية، والكهانة، والحكاية التي يمكن أن تسمى: أدب المسامرة.
 وأما الشعر فقد قيل في أغراض من: الوصف، والفخر، والهجو، والحماسة، والمدح، والغزل، والتشبيب، والرثاء، فلكلٍّ لغة، وتعابير، وأسلوب، ومستويات. 
وبعدما بعث النبي–صلى الله عليه وسلم- شاهدت الجزيرة العربية، بل العالم العربي، والعالم كله لونا جديدا للأدب، متصبغا بصبغة ربانية، وإسلامية، رفض ألفاظ الخلاعة، والمجاعة، ورحّب بألفاظ الحب، والمودة، والمساواة، والمواخاة، والعقيدة الصافية، والعبادة، والطهارة، والتزكية، والتربية الخلقية، والاستسلام لله الواحد الأوحد الفرد الصمد، بدل الاستسلام للطواغيت، واتباع الخرافات الجاهلية، فقد ولّد هذا الأدب ألفاظا من نوع جديد، لم يعرفها العرب فيماقبل عبر التاريخ، وقد تمحور هذا الأدب حول القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، والخطب الإسلامية الدينية الخلقية، وأما أغراض الشعر فظلت باقية كما هي، ولكن قد تغيرت النيات، وتغيرت المضامين، فالفخر أصبح الفخر بالدين، والعقيدة، والمدح أصبح لمديح الرسول العربي المبعوث-عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم-، والحماسة تبدلت بحماسة دينية إسلامية، والهجو أصبح الهجو ضد من يحارب الإسلام، ورسوله-صلى الله عليه وسلم-، فلمع هناك نخبة من الشعراء الإسلاميين، من أمثال: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن زهير، إضافة إلى غيرهم من الصحابة البررة الذين خاضوا في معركة الشعر، لقد أثرى هذا العصر الإسلامي المكتبة العربية بالنصيب الأكبر، والأذخر للمفردات، والمصطلحات.
 القرآن مع تفاسيره المتعددة الجوانب، والحديث مع الصحاح الستة إلى الصحاح التسعة، والشعر الإسلامي مع كل الأغراض التي قيل فيها، ثم الخطابة مع كل المستويات، كل في حد ذاته بحر للكلمات، ومحيط للألفاظ، والتعابير، والأمثال، وزد على ذلك ما تركه كل من اعتنق الإسلام من أعراب البوادي، والأرياف، والقبائل، وأما الذين دخلوا الإسلام من غير العرب، فإنهم أيضا جاؤوا بتعابير، وألفاظ لغاتهم، وخلطوها بالعربية، مما أدى إلى توفير الكلمات الدخيلة، والمولدة، والمعربة.
ولم ينقطع مسير هذا الركب اللغوي هنا، بل ما انفكت متواصلة، حتى شاهدت الأرض شعراء النقيض، والشعر الإباحي الخليع، والغزل العذري العفيف، وشعر الجنون، من أمثال: العاشق الهائم قيس بن الملوح، المعروف بمجنون ليلى، والفرزدق، وجرير، والأخطل، وجميل بن معمر المعروف بجميل بثينة، وعمر بن أبي ربيعة، الذي فتح العين بعد وفاة عمر الفاروق-رضي الله عنه-، فقد قال فيه من قال، وأحسنه: "أي خير رفع، وأي شر وضع".
ثم ظهر شعراء البلاط، والاكتساب، والتوسل، الذين أثروا المكتبة العربية بأنواع منوعة للكلمات، والتعابير بشعرهم، لهم مديح، ولهم غزل، ولهم هجو، ولهم حماسة، ولهم افتخار، ولهم، ولهم، ولهم............، ومن عمالقة هذا العصر الذين اكتظت بمآثرهم الفظفاظة المكتبات من جديد، أجدرهم بالذكر: المتنبي، وأبو تمام الطائي، وأبو نواس، وأبو فراس الحمداني، وأبو العتاهية، وأبو العلاء المعري، والبحتري، وبشار بن برد،  والبوصيري، وابن هانئ الأندلسي، وابن زيدون، وغيرهم الكُثُر الذين خاضوا في هذا المضمار.
ثم ظهرت أنواع من الرسائل، والكتابة، والخطابة، فقد خطب الحجاج، وزياد بن أبيه، وكتب عبد الحميد الكاتب، وابن العميد، ثم ترجم عبد الله ابن المقفع، وألف الجاحظ، ودوّن القاضي الفاضل، ثم برز أصحاب المقامات، والحوليات، علاوة على البلاغيين، والنقاد، ولكل منهم أساليب، واتجاهات، ووجهات نظر، مع بعض الخلافات فيها حينا، والموافقات عليها لحين آخر.
وأما العصر التركي الذي عرف بعصر الانحطاط الأدبي فقد زاد على العربية أدبا من ضرب آخر، التكلف سمته، والعباراة المقفاة المسجعة ظاهرته، وعنصره، وظل هذا الأدب يثري العربية بكلمات، وبعبارات، وبمفردات من نوع الموحشة المثقلة العسيرة، حتى نهض أصحاب النهضة الحديثة مع نظريات، واتجاهات، ونزعات فكرية حديثة، وبعطاءات أدبية، ولغوية من صنوف جديدة، من: الرواية، والقصة، والقصة القصيرة، والمقالة، والشعر، والشعر الحر، متناولا القضايا السياسية، والاجتماعية، والخلقية، والعقائدية، والدينية، وزودوا العربية بكمية هائلة من الألفاظ، والتعابير الحديثة، لقد ظهر في هذه الآونة الأدبية اللغوية كل من: الطهطاوي، والبارودي، والمازني، والمنفلوطي، وجبران، وخليل مطران، ومي زيادة، وأحمد فارس الشدياق، ومصطفى صادق الرافعي، وأحمد أمين، وطه حسين، ومحمد كرد علي، ومحمد حسين هيكل، وميخائيل نعيمة، وعباس محمود العقاد، ومصطفى كامل، وأمين الريحاني، وحافظ إبراهيم بك، وأحمد شوقي، وناصيف اليازجي، وسليم البستاني، وجرجي زيدان، ومحمد المويلحي، ومحمد تيمور، ويحيى حقي، وأمين يوسف غراب، ويوسف الشاروني، ومحمد صبحي أبو غنيمة، ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، ويوسف السباعي، وإحسان عبد القدوس، وعبد الرحمن الشرقاوي، وشكيب الجابري، وحنا مينة، وغسان كنفاني، والأرناؤوط، وعلي الطنطاوي، وعبد الحميد جودة السحار، والسيد قطب، ومحمد عبده، وعبد الرحمن رأفت الباشا، وسعيد رمضان البوطي، ومحمد الغزالي، وشوقي ضيف، والطيب صالح، وأبو الحسن الندوي.  
ثم ارتبطت البلدان بعضها ببعض في صلات سياسية، وتجارية، ودبلوماسية، ودفاعية، وحربية، مما تولدت في العربية، مصطلحات، وألفاظ، وتعابير جديدة مخلوطة من الإنكليزية، والفرنسية، والألمانية، والهندية، في الحقول التجارية، والسياسية، والدبلوماسية، والاجتماعية، والتعليمية، والمعرفية. 
وعصارة القول، إن اللغة العربية متشعبة، ومتراكمة، ومتكاثفة، ومتغزرة في مادتها، وفي بلاغتها، وفي شعرها، وفي خطابتها، وفي كتابتها، وفي قصتها، وفي روايتها، وفي مقالتها، وفي رسالتها، فما أذخر العربية! وما أغناها! وما أوسعها! وما أدقها! وما أعمقها! وما أقدمها! وما أفصحها لغةً، وكلماتٍ، ومفرداتٍ !.
******
إن المعاجم نتاج مختلف الصنوف الأدبية، وثمرة متنوع المسائل الحضارية، وحصاد ألوان من القضايا الثقافية، والاجتماعية، والسياسية، والعلمية، والمعرفية، فما أحوج العربيةَ إلى المعاجم اللغوية مع  هذه الغزارة الأدبية واللغوية في شتى حقولها!
 فما لبثت أن أنجبت هذه اللغة جيلا نجيبا رشيدا، أخذ على كاهله وضع مخطط مترامي الجوانب، محكم القواعد، والبنيان للاحتفاظ بمفردات هذه المادة الغزيرة اللغوية الأدبية، ولتأصيل جذروها، ولإحياء تراثها المجيد بحياة نشِطة، وبقوة فاعلة، ولنقلها إلى أبناء بجدتها مدى الدهور، والقرون جيلا تلو جيل، وأمة تلو أمة، ولم يأل جهدا من اشتغلوا بهذه العملية الجليلة قط، حتى لم يأت عليهم حين من الدهر الذي تسرب فيه إليهم الوهن، أو تسلل إليهم الضعف في إنجاز مخططهم الدقيق المجهد المتعب، وفي تحقيق غرضهم المنشود العملاق.
لقد خرجت مدى القرون منذ مطلع فجر الإسلام أنواع من المعاجم، من غريب القرآن، وغريب الحديث، وشرح المصطلحات الفقهية التشريعية، و معاجم المعاني، ومعاجم المباني، ومعاجم الألفاظ، ثم تنوعت هذه المعاجم، وتشعبت، وتفرعت، وتراكمت، من لدن أول من خاض في التأليف المعجمي إلى يومنا الحاضر، حتى تأسس هناك العديد من المدارس المعجمية العربية على أسس تأليفية، وتكوينية، وتصنيفية مختلفة. 
وأول ما يرجع إليه فضل التأليف المعجمي العربي، هو غريب القرآن على يد حبر الأمة، وترجمان القرآن، الصحابي الجليل سيدنا عبد الله عباس-رضي الله عنهما-، وتكون أول كتاب في ذلك مما أجابه ابن عباس عما سأله نافع بن الأزرق عن بعض الألفاظ الغربية الواردة في القرآن، وهو كتاب: مسائل نافع بن الأزرق في غريب القرآن، منسوب إلى ابن عباس، ثم توالى التأليف فيه ولايزال حتى عصرنا الحاضر، وقد ظهرت على حيز الوجود مآت المعاجم اللغوية في غريب القرآن، ومفرداته، انطلاقا من القرن الأول الهجري ومرورا بالعصر العباسي، والعصر العثماني، حتى العصر الحديث، ومن أوائل من خاض فيه: أبوسعيد أبان بن تغلب الجريري(ت141هـ)، ومالك بن أنس(ت179هـ)، وأبو الحسن النضر بن شميل (ت204هـ)، وأبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي (ت210هـ)، وأبو محمد يحيى بن المبارك بن المغيرة(ت202هـ)، ومحمد بن سلام الجمحي (ت231هـ)، ومحمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت276هـ)، والمفضل بن سلمة بن عاصم الكوفي (ت290هـ)، وأبو الحسن علي بن سليمان بن المفضل الملقب بالأخفش الصغير (ت315هـ)، وأبو بكر محمد بن الحسن بن دريد (ت321هـ)، وأبو بكر محمد السجستاني (ت330هـ) ، وأبو علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي(ت421هـ)، وأبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني(ت502هـ).[2]
 ثم ظهرت مجموعة لغوية أخرى متمحورة حول القرآن الكريم، وهي مجموعة كتب الوجوه والنظائر، ومن أوئل المؤلفات في هذا النوع: "الوجوه والنظائر"، لأبي الحسن مقاتل بن سليمان الأزدي الخراساني(ت150هـ)، وأبو الفضل عباس بن الفضل الأنصاري الواقفي (ت186هـ)، و"تحصيل نظائر القرآن" لأبي عبد الله محمد بن علي المعروف بالحكيم الترمذي (ت320هـ)، و"كتاب الأفراد" لابن فارس الرازي (ت395هـ).[3]
وأثناء ذلك أخرج اللغويون كتبا لغوية في شرح "غريب الحديث"، ومن أشهر من أسهموا في التأليف اللغوي عن ذلك: أبو عدنان عبد الرحمن بن عبد الأعلى من القرن الثاني الهجري، وأبو الحسن النضر بن شميل المازني، وله غريب القرآن أيضا، وأبو علي محمد بن المستنير المعروف بقطرب(ت206هـ)، والفرا، ومعمر بن المثنى التيمي، ومحمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي (ت231هـ).[4]
هذه طليعة التأليف اللغوي المعجمي، والحجر الأساسي للصناعة المعجمية، والنواة الأولى للشرح اللغوي، يرجع الفضل كله إلى القرآن الكريم، أولا، ثم إلى الحديث النبوي الشريف ثانيا، وكان من عادة المستفسرين لمعاني القرآن الكريم عند عبد الله بن عباس أن يستشهد بالشعري العربي القديم، من شعراء القبائل المختلفة، وقد تحدث عبد الواحد الوافي في كتابه فقه اللغة عن هذه القبائل بالتفصيل، ماهي القبائل التي لغتها قابلة للاستدلال؟ وماهي القبائل التي لايقبل الاستدلال بلغتها أو بلهجتها؟، وما هو السبب؟[5]
وتلته المعاجم اللغوية من نوع معاجم المعرّب، ومعاجم التصويب اللغوي، ومعاجم الموضوعات التي تنقسم إلى كتب، من: كتاب الوحوش، وكتاب الحشرات، وكتاب الخيل، وكتاب اللهجات، ومعاجم النوادر، ومعاجم الصفات، ومعاجم الأبنية، ومعاجم النبات، ومعاجم الأنواء والفلك، ومعاجم الأمكنة، ومعاجم الأدوات الحربية، ومن أهم هذه المعاجم التي ظهرت على حيز الوجود: "كتاب العالم في اللغة" لأبي القاسم أحمد بن أبان الإشبيلي، و"فقه اللغة وسر العربية" لأبي منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي، و"المخصص" لابن سيده المرسي، و"كفاية المتحفظ ونهاية المتلفظ"، لأبي إسحاق إبراهيم الطرابلسي المعروف بابن الأجدابي من أواخر القرن السادس الهجري، و"الغريب المصنف"لابن سلام الهروي، و"الألفاظ الكتابية "لعبد الرحمن الهمذاني (ت320هـ)، و"مُتخيّر الألفاظ"لابن فارس(ت395هـ)[6]
وقد ظهر منذ منتصف القرن الثاني الهجري نوع جديد للمعاجم اللغوية وهي معاجم الألفاظ والحروف، تألفت على أساس حروف المعجم/حروف الهجاء على الترتبب الصوتي، والترتيب الألفبائي، وقد تأسست على الأنماط التصنيفية المختلفة لهذه المعاجم فكرة المدارس المعجمية عند المحققين اللغويين المعاصرين، من أمثال: أحمد عبد الغفور عطار، وحسين نصار، والوافي، والآخرين، وأما المدارس التي تأسست على المنهجية التأليفية المختلفة فهي: "مدرسة الترتيب الصوتي"، على كتاب:"العين" للخليل، و"مدرسة الترتيب التقليبي الألفبائي" على:"جمهرة اللغة" لأبي بكر بن دريد(223-321هـ)، و"مدرسة التقفية" على:"تاج اللغة وصحاح العربية"، لإسماعيل بن حماد الجوهري (332هـ-400هـ)، و"مدرسة الترتيب الألفبائي الجذري"، على:"أساس البلاغة" لمحمود بن عمر الزمخشري (467-538هـ)، و"مدرسة الترتيب الألفبائي المنطوق"، كالمعاجم الإنكليزية الحديثة.
 ثم ظهرت معاجم تابعة لكل هذه المدارس المعجمية تبعا كاملا، أم تبعا مع بعض الاختلاف، فقد ألف أبو عليّ القالي (280-356هـ) معجمه:"البارع"، وأبو منصور الأزهريّ (282-370هـ)"تهذيب اللغة"، والصاحب بن عبّاد (324-385هـ) كتابه "المحيط"، وابن سيده(398-458هـ) كتابه "المحكم والمحيط الأعظم"، وأبو بكر الزُبيديّ (379هـ) كتابه: "مختصر العين"على منهج وأساس كتاب"العين" للخليل بن أحمد الفراهيدي.
 وظهر معجم "مقاييس اللغة" لأحمد بن فارس(395هـ)، و"مجمل اللغة" لابن  فارس نفسه، على أساس مدرسة الجمهرة، لابن دريد.
وأما المعاجم التي ألفت على أساس مدرسة التقفية للجوهري، فهي:  "العباب الزاخر واللباب الفاخر"، للصغاني(577-650هـ)، و"لسان العرب" لابن منظور(630-711هـ)، و"القاموس المحيط" للفيروزآبادي(729-816/ 817هـ)، و"تاج العروس من جواهر القاموس" لمحمد مرتضى الحسيني الزَبيدي (1145- 1205هـ)، و "معيار اللغة"(في مجلدين كبيرين) لميرزا محمد علي محمد صادق الشيرازي (من القرن الثالث عشر الهجري).
وصدر "مختار الصحاح" لمحمد بن أبي بكر الرازي (666هـ)، و"المصباح المنير" لأحمد بن محمد المقرئ الفيومي(770هـ)، و"محيط المحيط" لبطرس البستاني (1883م)، و"المنجد" للأب لويس معلوف (1908م)، و"متن اللغة" لأحمد رضا العاملي(1953م)، و"المعجم الوسيط"، و "المعجم الكبير" (4 أجزاء) لمجمع اللغة العربية، القاهرة، و "المعجم اللغوي التاريخي" للمستشرق الألماني فيشر على نمط مدرسة الترتيب الألفبائي الجذري لأساس البلاغة للزمخشري.
 كما وقد ألف بعض اللغويين الهنود معاجمهم الثنائية اللغة على هذا النمط، من أمثال: عبد الحفيظ البلياوي، ألف "مصباح اللغات" (عربي-أردي)، ووحيد الزمان الكيرانوي، ألف "القاموس الوحيد" (في مجلدين ضخمين)، وقد اتبع هانس قير في تأليف معجمه الثنائي (العربي-الإنكليزي) هذه المدرسة المعجمية، وأما القاموس (العربي-الإنكليزي) المفصل الضخم "مد القاموس"( ARABIC-ENGLISH LEXICON) (في 8 مجلدات) لإيدورد وليم لين (E.W.Lane) فهو أيضا خرج على الترتيب الألفبائي الجذري.
وهناك قائمة طويلة للمعاجم العربية الموحدة، والمزدوجة، والمثلثة التي ألفت على الترتيب الألفبائي المنطوق، ومن أهم ما ألف عليه: "معجمي الحي" لسهيل حسيب سماحة، و"التوقيف على مهمات التعاريف" لمحمد عبد الرؤوف المناوي، و"القاموس الجديد" للجنة من اللغويين في تونس، و"الرائد" لجبران مسعود، و"المنجد الإعدادي"، و" نجعة الرائد وشرعة الوارد في المترادف والمتوارد " لإبراهيم اليازجي.
ومن المعاجم (العربية-الإنجليزية-الفرنسية) التي نالت القبول، والرواج فيمابين الأوساط العلمية اللغوية الأدبية في العصر الحاضر:من أهمها:"المورد" لمنير البعلبكي، و"قاموس إنكليزي عربي" لوليم طمسُن ورتياب، و"قاموس المصطلحات اللغوية والأدبية" (إنجليزي-عربي-فرنسي) لإميل يعقوب، وبسام بركة، ومي شيخاني، و"معجم وسيط علمي لغوي فني" (عربي-إنجليزي-فرنسي) لعبد الله العلايلي، و"القاموس السياسي ومصطلحات المؤتمرات الدولية (إنكليزي-فرنسي-عربي) لمجموعة من المؤلفين من: س. م. لحام (لغة عربية)، وفرح (فرنسية)، وم. ا. ساسين (إنكليزية)، وهناك بعض القواميس القرآنية الثنائية اللغة، مثلا: "قاموس ألفاظ القرآن الكريم"(عربي-إنكليزي) لعبد الله عباس الندوي، و"سلك البيان في مناقب القرآن" (عربي-إنكليزي) لجون بينرك ب. أ. (John Penrice B.A.).
 وما فتئت مسيرة التأليف المعجمي على قدم وساق في كل الفروع، والحقول منذ القرن المنصرم، حتى ظهرت هناك معاجم متخصصة معاصرة، من أمثال: "المعجم القانوني" لسليمان حارث الفاروقي، و"معجم الدبلوماسية والشئون الدولية" لسموحي، و "قاموس مصطلحات العلاقات والمؤتمرات الدولية" لحسن عبد الله، و"معجم المصطلحات المالية والمصرفية" للأسيوطي، و"معجم المصطلحات العلمية والفنية والهندسية" لأحمد شفيق الخطيب، و"المعجم الطبي الموحد" الصادر في اتحاد الأطباء الرباط، و"المعجم العسكري الموحد" الصادر عن جامعة الدول العربية.
 وقد أسست الحكومات العربية والإسلامية أم عاونت في تأسيس مجامع لغوية عنيت بتوظيف وتشغيل الباحثين والمحققين والنقاد اللغويين على إجراء بحوث وتحقيقات حول التراث العربي الإسلامي المجيد، وإخراج أعمالهم المحققة في ثوب قشيب لإحياء التراث، ولتعميم نفعه على المستويات العلمية والأدبية طوال العالم، ومن أهم هذه المجامع اللغوية التي نشطت، واستمرت في عملها الدؤوب، وأسهمت في التأليف المعجمي إسهاما محمودا ومشكورا، أجدرها بالذكر: "مجمع اللغة العربية" بالقاهرة (أنشئ عام 1892م)، و"المجمع العلمي العربي السوري للغة العربية" (تأسس في 1919م)، و"المجمع العلمي العراقي" (ظهر في أواخر 1947م)، و"مجمع اللغة العربية الأردني" و"اللجنة الأردنية للتعريب والترجمة والنشر" من عام 1961م، و"اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية" القاهرة (تأسس في شهر أبريل 1971م)، و"الاتحاد العلمي العربي" (1953م)، و"مكتب تنسيق التعريب" بالرباط(من عام 1961م)، و"مجمع اللغة العربية" بدمشق، و"وزارة الإرشاد والأنباء" بدولة الكويت، التي أنفقت، وأشرفت على تحقيق "تاج العروس"، وإخراجه خير إشراف.
*****
ومن أضخم المعاجم العربية التي صدرت على يد عالم هندي مغترب في  القرن الثامن عشر الميلادي ليس هو إلا :تاج العروس من جواهر القاموس" لصاحبه محمد مرتضى الحسيني البلكرامي الشهير بالزبيدي، لقد تميز هذا المعجم فيما بين المعاجم العربية.
إن المعاجم العربية التي سبق ذكرها هي: مما يتضمن القرآن، والحديث، والنوادر، والأمثال، والصفات، والنبات، والحيوان، والفلك، والأجناس، والأدوات، والمعارف العامة، والعلوم المتخصصة، فإن التاج وحيدا يتميز بتضمن كل هذه الحقول السابقة الذكر، إذ استقى في مادته المشروحة من كل معاجم هذه الأنواع، ثم نظّمها تنظيما على نمط معجم الألفاظ متبعا خطة الجوهري في صحاحه، وشارحا "القاموس المحيط" للفيروزآبادي، شرحا مفصلا حرا مبرهنا، ومستدلا بكل من: القرآن، والحديث، والشعر، والخطابة، والأمثال، والأقوال، والمعاجم، والكتب اللغوية والمعرفية القديمة، حتى خرج كأكبر موسوعة لغوية في اللغة العربية، متناولا بشرح مأة ألف وعشرين ألف كلمة(1,20000 كلمة)، مشتملا على أربعين مجلدا ضخما محققا على يد كبار المحققين اللغويين من أمثال: عبد الستار أحمد فراج، و الدكتور حسين نصار، الدكتور خالد عبد الكريم جمعة، الدكتور ضاحي عبد الباقي، الدكتور عبد الحميد طلب، الدكتور عبد الصبور شاهين، الدكتور عبد العزيز علي سفر، الدكتور عبد العزيز مطر، الدكتور عبد الفتاح الحلو، الدكتور عبد اللطيف محمد الخطيب،  الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف، الدكتور محمد سلامة رحمة، الدكتور محمود محمد الطناحي، عبد الستار أحمد فراج، عبد السلام محمد هارون، عبد العليم الطحاوي، عبد الكريم العزباوي، عبد المجيد قطامش، وغيرهم الذين بلغ عددهم 22 محققا ، وقد صدر هذه الطباعة المحققة من وزارة الإرشاد والأنباء بدولة الكويت خلال الفترة مابين: (1965-2002م)
لقد قدم كاتب هذه السطور أطروحة جامعية حول الزبيدي ومعجميته في جامعة جواهرلال نهرو، نيو دلهي بالهند، ونال عليها شهادة الدكتوراة، وينوي أن يصدر أطروحته في صورة كتاب في القريب العاجل- إن شاء الله تعالى-، وهذا البحث الذي بين أيديكم مما كتبه كمقدمة على الأطروحة.




[1] - عبد الواحد الوافي، فقه اللغة، مصر، ط: 7، سنة الطباعة غير مذكورة، ص: 163.
[2] - أنظر: أحمد الشرقاوي إقبال، معجم المعاجم، بيروت، لبنان، ط:2، 1993م، ص: 4. 
[3] - نفس المصدر، ص: 19.
[4] - المصدر نفسه،  ص: 22-25.
[5] - عبد الواحد الوافي:  فقه اللغة، مصر ، الطبعة السادسة، ص: 165.
[6] - معجم المعاجم، للشرقاوي، ص: 42-145.

Comments

Popular posts from this blog

الثنائية اللغوية بين اللغات الهندية والعربية الفصحى

النظريات الأدبية في الأدب العربي بين الأصالة والمعاصرة

جهود العلماء الهنود في المعجمية العربية